فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{فقُلْتُ استغفروا ربّكُمْ} بالتوبةِ عن الكفرِ والمعاصِي {إِنّهُ كان غفّارا} للتائبين كأنّهُم تعللُوا وقالوا إنْ كُنّا على الحقِّ فكيف نتركهُ وإنْ كُنّا على الباطلِ فكيف يقبلنا بعد ما عكفنا عليهِ دهْرا طويلا فأمرهم بما يمحقُ ما سلف منهم من المعاصِي ويجلبُ إليهم المنافع ولذلك وعدهُم بما هُو أوقعُ في قلوبِهِم وأحبُّ إليهِم من الفوائدِ العاجلةِ، وقيل لما كذّبُوه بعد تكريرِ الدعوةِ حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائِهِم أربعين سنة وقيل سبعين سنة فوعدهُم أنّهم إنْ آمنُوا أنْ يرزقهُم الله تعالى الخِصْب ويدفع عنْهُم ما كانُوا فيهِ {يُرْسِلِ السماء عليْكُمْ مُّدْرارا} أي كثير الدرورِ، والمرادُ بالسماءِ المظلةُ أو السحابُ {ويُمْدِدْكُمْ بأموال وبنِين ويجْعل لّكُمْ جنات} بساتين {ويجْعل لّكُمْ} فيها {أنْهارا} جارية {مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا} إنكارٌ لأنْ يكون لهُم سببٌ ما في عدمِ رجائِهِم لله تعالى وقارا على أنّ الرجاء بمعْنى الاعتقادِ، ولا ترجون حالٌ من ضميرِ المخاطبين والعاملُ فيها معْنى الاستقرار في لكُم على أنّ الإنكار متوجهٌ إلى السببِ فقطْ مع تحققِ مضمونِ الجملة الحاليةِ لا إليهِما معا كما في قوله تعالى: {وما لِى لا أعْبُدُ الذي فطرنِى} ولله متعلقٌ بمضمرٍ وقع حالا مِنْ وقارا ولو تأخر لكان صفة لهُ أيْ أيُّ سببٍ حصل لكُم حال كونِكُم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمِهِ بالإيمانِ بهِ والطاعةِ لهُ {وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} أي والحالُ أنكم على حالٍ منافيةٍ لما أنتُم عليهِ بالكليةِ وهي أنكم تعلمون أنّه تعالى خلقكُم تاراتٍ عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نُطفا ثم علقا ثم مُضغا ثم عظاما ولحوما ثم أنشأ كم خلقا آخر فإن التقصير في توقيرِ منْ هذهِ شؤونُهُ في القدرةِ القاهرةِ والإحسانِ التامِّ مع العلمِ بها مِمّا لا يكادُ يصدرُ عن العاقلِ. هذا وقد قيل الرجاءُ بمعنى الأملِ أي ما لكُم لا تُؤمِّلُون لهُ تعالى توقيرا أي تعظيما لمن عبدهُ وأطاعهُ ولا تكونون على حالٍ تُؤمِّلُون فيها تعظيم الله تعالى إيّاكُم في دارِ الثوابِ، ولله بيانٌ للموقّرِ ولو تأخر لكان صلة للوقارِ والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالةُ التنزيليةُ فإن اللائق بحالِ الكفرةِ استبعادُ أنْ لا يعتقدُوا وقارا لله تعالى وعظمتِهِ مع مشاهدتِهِم لآثارِها وأحكامِها الموجبةِ للاعتقادِ حتْما، وأمّا عدمُ رجائِهِم لتعظيمِ الله إيّاهُم في دارِ الثوابِ فليس في حيزِ الاستبعادِ والإنكارِ مع أنّ في جعلِ الوقارِ بمعْنى التوقيرِ من التعسفِ، وفي قوله: {لله} بيانٌ للموقّرِ ولو تأخر لكان صلة للوقارِ من التناقضِ ما لا يخْفى فإنّ كونهُ بيانا للموقِّرِ يقتضِي أنْ يكون التوقيرُ صادرا عنْهُ تعالى والوقار وصفا للمخاطبين وكونُهُ صلة للوقارِ يوجبُ كون الوقارِ وصفا لهُ تعالى وقيل ما لكُم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذِكُم بالعقوبةِ أيْ أيُّ عُذرٍ لكُم في تركِ الخوفِ منهُ تعالى.
وعن سعيدِ بنِ جُبيرٍ عنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما ما لكُم لا تخشُون لله عقابا ولاترجون منْهُ ثوابا،.
وعن مجاهدٍ والضحّاكِ ما لكُم لا تُبالون لله عظمة، قال قُطْربٌ هي لغةٌ حجازيةٌ يقولون لم أرْجُ أيْ لم أبالِ.
وقوله تعالى: {ألمْ تروْاْ كيْف خلق الله سبْع سموات طِباقا} أي متطابقة بعضُها فوق بعضٍ {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} أي مُنوِّرا لوجهِ الأرضِ في ظُلمةِ الليلِ، ونسبتُهُ إلى الكُلِّ مع أنّهُ في السماءِ الدُّنيا لما أنّها محاطةٌ بسائرِ السمواتِ فما فيها يكونُ في الكُلِّ أو لأنّ كُلّ واحدةٍ منها شفافةٌ لا تحجبُ ما وراءها فيُرى الكلُّ كأنّها سماءٌ واحدةٌ ومن ضرورةِ ذلك أن يكون ما في واحدةٍ منها كأنّه في الكُلِّ {وجعل الشمس سِراجا} يزيلُ ظلمة الليلِ ويبصرُ أهلُ الدُّنيا في ضوئِها وجه الأرضِ ويشاهدون الآفاق كما يبصرُ أهلُ البيتِ في ضوءِ السراجِ ما يحتاجون إلى إبصارِهِ وليس القمرُ بهذه المثابةِ إنما هو نورٌ في الجملة {والله أنبتكُمْ مّن الأرض نباتا} أي أنشأكُم منها فاستعير الإنباتُ للإنشاءِ لكونِهِ أدلّ على الحدوثِ والتكونِ من الأرضِ، ونباتا إما مصدر مؤكدٌ لأنبتكُم بحذفِ الزوائدِ ويسمّى اسم مصدرٍ أو لما يترتبُ عليهِ من فعلِهِ أي أنبتكُم من الأرضِ فنبتُّم نباتا ويجوزُ أن يكون الأصلُ أنبتكُم من الأرضِ إنباتا فنبتُم نباتا فيُحذفُ من الجملة الأُولى المصدرُ ومن الثانيةِ الفعلُ اكتفاء في كل منهُما بما ذُكِر في الأُخْرى كما مرّ في قوله تعالى: {أمْ تُرِيدُون أن تسْئلُواْ رسُولكُمْ كما سُئِل موسى} وقوله تعالى: {وإِن يمْسسْك الله بِضُرّ فلا كاشِف لهُ إِلاّ هُو وإِن يُرِدْك بِخيْرٍ فلا رادّ لِفضْلِهِ} {ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها} بالدفنِ عند موتِكُم {ويُخْرِجُكُمْ} منها عند البعثِ والحشرِ {إِخْراجا} محققا لا ريب فيهِ {والله جعل لكُمُ الأرض بِساطا} تتقلبون عليها تقلبكُم على بُسُطِكُم في بيوتِكُم، وتوسيطُ لكُم بين الجعلِ ومفعوليهِ مع أنّ حقّهُ التأخيرُ لما مرّ مرارا من الاهتمامِ ببيانِ كونِ المجعولِ من منافعِهم والتشويقِ إلى المؤخرِ فإنّ النفس عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لاسيما عند كون المقدمِ ملوِّحا بكونِهِ من المنافعِ تبقى مترقبة لهُ فيتمكنُ عند ورودِهِ لها فضلُ تمكنٍ.
{لّتسْلُكُواْ مِنْها سُبُلا فِجاجا} أي طرقا واسعة جمعُ فج وهو الطريقُ الواسعُ وقيلُ هو المسلكُ بين الجبلينِ، ومِنْ متعلقةٌ بما قبلها لما فيهِ من معْنى الاتخاذِ أو بمضمرٍ هو حالٌ من سبلا أي كائنة من الأرضِ ولو تأخر لكان صفة لها. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِنّا أرْسلْنا نُوحا إلى قوْمِهِ}
قد تقدّم أن نوحا أوّل رسول أرسله الله، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ بن قينان بن شيث بن آدم، وقد تقدّم مدّة لبثه في قومه، وبيان جميع عمره، وبيان السنّ التي أرسل وهو فيها في سورة العنكبوت.
{أنْ أنذِرْ قوْمك} أي: بأن أنذر على أنها مصدرية.
ويجوز أن تكون هي المفسرة؛ لأن في الإرسال معنى القول.
وقرأ ابن مسعود {أنذر} بدون أن، وذلك على تقدير القول، أي فقلنا له: أنذر {مِن قبْلِ أن يأْتِيهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} أي: عذاب شديد الألم، وهو عذاب النار.
وقال الكلبي: هو ما نزل بهم من الطوفان.
وجملة: {قال يا قوْمٌ إِنّى لكُمْ نذِيرٌ مُّبِينٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا على تقدير سؤال، كأنه قيل: فماذا قال نوح؟ فقال: قال لهم إلخ.
والمعنى: إني لكم منذر من عقاب الله ومخوّف لكم، ومبين لما فيه نجاتكم.
{أنِ اعبدوا الله واتقوه وأطِيعُونِ} (أن) هي التفسيرية لنذير، أو هي المصدرية أي: بأن اعبدوا الله ولا تشركوا به غيره، {واتقوه} أي: اجتنبوا ما يوقعكم في عذابه، {وأطيعون} فيما آمركم به فإني رسول إليكم من عند الله.
{يغْفِرْ لكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} هذا جواب الأمر، و(من) للتبعيض، أي: بعض ذنوبكم، وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته.
وقال السديّ: المعنى يغفر لكم ذنوبكم، فتكون (من) على هذا زائدة.
وقيل: المراد بالبعض: ما لا يتعلق بحقوق العباد.
وقيل: هي لبيان الجنس.
وقيل: يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها {ويُؤخّرْكُمْ إلى أجلٍ مُّسمّى} أي: يؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدّره الله لكم بشرط الإيمان والطاعة فوق ما قدّره لكم، على تقدير بقائكم على الكفر والعصيان.
وقيل: التأخير بمعنى البركة في أعمارهم أن آمنوا، وعدم البركة فيها إن لم يؤمنوا.
قال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم.
وقال الزجاج: أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير ميتة المستأصلين بالعذاب.
وقال الفراء: المعنى لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا {إِنّ أجل الله إِذا جاء لا يُؤخّرُ} أي: ما قدّره لكم على تقدير بقائكم على الكفر من العذاب إذا جاء، وأنتم باقون على الكفر لا يؤخر بل يقع لا محالة، فبادروا إلى الإيمان والطاعة.
وقيل المعنى: إن أجل الله، وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان.
وقيل المعنى: إذا جاء الموت لا يؤخر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب {لوْ كُنتُمْ تعْلمُون} أي: شيئا من العلم لسارعتم إلى ما أمرتكم به، أو لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.
{قال ربّ إِنّى دعوْتُ قوْمِى ليْلا ونهارا} أي: قال نوح مناديا لربه، وحاكيا له ما جرى بينه وبين قومه، وهو أعلم به منه إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان دعاء دائما في الليل والنهار من غير تقصير.
{فلمْ يزِدْهُمْ دُعائِى إِلاّ فِرارا} عما دعوتهم إليه وبعدا عنه.
قال مقاتل: يعني تباعدا من الإيمان، وإسناد الزيادة إلى الدعاء؛ لكونه سببها، كما في قوله: {زادتْهُمْ إيمانا} [الأنفال: 2].
قرأ الجمهور: {دعائي} بفتح الياء، وقرأ الكوفيون، ويعقوب، والدوري عن أبي عمرو بإسكانها، والاستثناء مفرّغ.
{وإِنّى كُلّما دعوْتُهُمْ لِتغْفِر لهُمْ} أي: كلما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بك، والطاعة لك {جعلُواْ أصابعهم في ءاذانهم} لئلا يسمعوا صوتي {واستغشوا ثِيابهُمْ} أي: غطوا بها وجوههم لئلا يروني.
وقيل: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي، فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سدّ الآذان.
وقيل: هو كناية عن العداوة.
يقال: لبس فلان ثياب العداوة.
وقيل: استغشوا ثيابهم لئلا يعرفهم فيدعوهم {وأصرُّواْ} أي: استمروا على الكفر، ولم يقلعوا عنه ولا تابوا منه {واستكبروا} عن قبول الحق، وعن امتثال ما أمرهم به {استكبارا} شديدا.
{ثُمّ إِنّى دعوْتُهُمْ جهارا} أي: مظهرا لهم الدعوة مجاهرا لهم بها.
{ثُمّ إِنّى أعْلنْتُ لهُمْ} أي: دعوتهم معلنا لهم بالدعاء {وأسْررْتُ لهُمْ إِسْرارا} أي: وأسررت لهم الدعوة إسرارا كثيرا.
قيل المعنى: أن يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سرا فيما بينه وبينه، والمقصود أنه دعاهم على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة، فلم ينجع ذلك فيهم.
قال مجاهد: معنى أعلنت صحت.
وقيل: معنى {أسررت}: أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها.
وانتصاب {جهارا} على المصدرية؛ لأن الدعاء يكون جهارا ويكون غير جهار، فالجهار نوع من الدعاء كقولهم: قعد القرفصاء، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، أي: دعاء جهارا، وأن يكون مصدرا في موضع الحال أي: مجاهرا، ومعنى {ثم}: الدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من أحدهما.
قرأ الجمهور: {إني} بسكون الياء، وقرأ أبو عمرو والحرميون بفتحها.
{فقُلْتُ استغفروا ربّكُمْ إِنّهُ كان غفّارا} أي: سلوه المغفرة من ذنوبكم السابقة بإخلاص النية {إِنّهُ كان غفّارا} أي: كثير المغفرة للمذنبين.
وقيل: معنى {استغفروا}: توبوا عن الكفر إنه كان غفارا للتائبين {يُرْسِلِ السماء عليْكُمْ مُّدْرارا} أي: يرسل ماء السماء عليكم، ففيه إضمار.
وقيل: المراد بالسماء المطر، كما في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

والمدرار: الدرور، وهو التحلب بالمطر، وانتصابه إما على الحال من السماء، ولم يؤنث، لأن مفعالا لا يؤنث؛ تقول امرأة مئناث ومذكار، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إرسالا مدرارا، وقد تقدّم الكلام عليه في سورة الأنعام، وجزم يرسل لكونه جواب الأمر.
وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق، ولهذا قال: {ويُمْدِدْكُمْ بأموال وبنِين ويجْعل لّكُمْ جنات} يعني: بساتين {ويجْعل لّكُمْ أنْهارا} جارية.
قال عطاء: المعنى يكثر أموالكم وأولادكم.
أعلمهم نوح عليه السلام أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا {مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا} أي: أيّ عذر لكم في ترك الرجاء، والرجاء هنا بمعنى الخوف، أي: ما لكم لا تخافون الله، والوقار العظمة من التوقير، وهو التعظيم، والمعنى لا تخافون حقّ عظمته، فتوحدونه وتطيعونه، و{لا ترْجُون} في محل نصب على الحال من ضمير المخاطبين، والعامل فيه معنى الاستقرار في لكم، ومن إطلاق الرجاء على الخوف قول الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثوابا، ولا تخافون منه عقابا.
وقال مجاهد، والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة.
قال قطرب: هذه لغة حجازية.
وهذيل، وخزاعة، ومضر يقولون: لم أرج: لم أبل.
وقال قتادة: ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان.
وقال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا.
وقال ابن زيد: ما لكم لا تؤدّون لله طاعة.
وقال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقا، ولا تشكرون له نعمة، وجملة: {وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنه سبحانه قد خلقكم على أطوار مختلفة: نطفة، ثم مضغة، ثم علقة إلى تمام الخلق، كما تقدّم بيانه في سورة المؤمنين، والطور في اللغة المرّة، وقال ابن الأنباري: الطور الحال، وجمعه أطوار.
وقيل: أطوارا صبيانا، ثم شبانا، ثم شيوخا.
وقيل: الأطوار اختلافهم في الأفعال والأقوال والأخلاق، والمعنى: كيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟ {ألمْ تروْاْ كيْف خلق الله سبْع سموات طِباقا} الخطاب لمن يصلح له، والمراد: الاستدلال بخلق السموات على كمال قدرته وبديع صنعه، وأنه الحقيق بالعبادة، والطباق المتطابقة بعضها فوق بعض كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب قال الحسن: خلق الله سبع سموات على سبع أرضين بين كل سماء وسماء، وأرض وأرض خلق وأمر، وقد تقدّم تحقيق هذا في قوله: {ومِن الأرض مِثْلهُنّ} [الطلاق: 12] وانتصاب {طباقا} على المصدرية، تقول: طابقه مطابقة، وطباقا، أو حال بمعنى ذات طباق، فحذف ذات وأقام طباقا مقامه، وأجاز الفراء في غير القرآن جرّ {طباقا} على النعت {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} أي: منوّرا لوجه الأرض، وجعل القمر في السموات مع كونها في سماء الدنيا؛ لأنها إذا كانت في إحداهنّ فهي فيهنّ، كذا قال ابن كيسان.
قال الأخفش: كما تقول: أتاني بنو تميم، والمراد بعضهم.
وقال قطرب: فيهنّ بمعنى معهنّ، أي: خلق القمر والشمس مع خلق السموات والأرض، كما في قول امرئ القيس:
وهل ينعمن من كان آخر عهده ** ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال

أي: مع ثلاثة أحوال {وجعل الشمس سِراجا} أي: كالمصباح لأهل الأرض؛ ليتوصلوا بذلك إلى التصرّف فيما يحتاجون إليه من المعاش.
{والله أنبتكُمْ مّن الأرض نباتا} يعني: آدم خلقه الله من أديم الأرض، والمعنى: أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين، و{نباتا} إما مصدر لأنبت على حذف الزوائد، أو مصدر لفعل محذوف، أي: أنبتكم من الأرض، فنبتم نباتا.
وقال الخليل، والزجاج: هو مصدر محمول على المعنى؛ لأن معنى {أنبتكم}: جعلكم تنبتون نباتا.
وقيل المعنى: والله أنبت لكم من الأرض النبات، فـ: {نباتا} على هذا مفعول به.
قال ابن بحر: أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر، وبالطول بعد القصر.
{ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها} أي: في الأرض {ويُخْرِجُكُمْ إِخْراجا} يعني: يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة.
{والله جعل لكُمُ الأرض بِساطا} أي: فرشها وبسطها لكم تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم.
{لّتسْلُكُواْ مِنْها سُبُلا فِجاجا} أي: طرقا واسعة، والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع، كذا قال الفراء، وغيره.
وقيل الفج: المسلك بين الجبلين، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الأنبياء وفي سورة الحج مستوفى.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {جعلوا أصابعهم في آذانهم} قال: لئلا يسمعوا ما يقول {واستغشوا ثِيابهُمْ} قال: ليتنكروا، فلا يعرفهم {واستكبروا استكبارا} قال: تركوا التوبة.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عنه {واستغشوا ثِيابهُمْ} قال: غطوا وجوههم لئلا يروا نوحا ولا يسمعوا كلامه.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب عنه أيضا في قوله: {مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا} قال: لا تعلمون لله عظمة.
وأخرج ابن جرير، والبيهقي عنه أيضا: {وقارا} قال: عظمة.
وفي قوله: {وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} قال: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: لا تخافون لله عظمة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: لا تخشون له عقابا ولا ترجون له ثوابا.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عليّ بن أبي طالب: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ناسا يغتسلون عراة ليس عليهم أزر، فوقف، فنادى بأعلى صوته {مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا}».
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمرو قال: الشمس والقمر، وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك عليكم أنه من كتاب الله: {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا وجعل الشمس سِراجا}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمر قال: تضيء لأهل السموات، كما تضيء لأهل الأرض.
وأخرج عبد بن حميد عن شهر بن حوشب قال: اجتمع عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وقد كان بينهما بعض العتب، فتعاتبا فذهب ذلك، فقال عبد الله بن عمرو لكعب: سلني عما شئت، فلا تسألني عن شيء إلاّ أخبرتك بتصديق قولي من القرآن، فقال له: أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السموات السبع، كما هو في الأرض؟ قال: نعم ألم تروا إلى قول الله: {خلق سبْع سموات طِباقا وجعل القمر فِيهِنّ نُورا وجعل الشمس سِراجا}.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه عن ابن عباس: {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} قال: وجهه في السماء إلى العرش وقفاه إلى الأرض.
وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه: {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} قال: خلق فيهنّ حين خلقهنّ ضياء لأهل الأرض، وليس في السماء من ضوئه شيء، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضا: {سُبُلا فِجاجا} قال: طرقا مختلفة. اهـ.